ديوان( العودة إلي سنار) للشاعر الراحل د. محمد عبدالحي:
شاعر سوداني توفي فى اغسطس 1989
النشيد الأول
البحــــر
بالأمس مرَّ أوّل الطّيور فوقنا ، ودار دورتين قبل أن
يغيبَ ، كانت كلُّ مرآة على المياه فردوساً
من الفسفورِ – يا حدائق الفسفور والمرايا
أيّتها الشمس التى توهّجتْ واهترَأت
فى جسد الغياب ، ذوبى مرّة أخيرةً ،
وانطفئى ، أمسِ رأينا أوّل الهدايا
ضفائر الأشنةِ والليفِ على الأجاجِ
من بقايا
الشجر الميت والحياة فى ابتدائها الصامتِ
بين علق البحارْ
فى العالمِ الأجوفِ
حيثَ حشراتُ البحرِ فى مَرَحِها الأعْمَى
تدب فى كهوفِ الليفِ والطحلبِ
لا تعى
انزلاقَ
الليلِ
والنهارْ
وحمل الهواءْ
رائحةَ الأرضِ ،
ولوناً غير لون هذه الهاوية الخضراءْ
وحشرجات اللغة المالحة الأصداءْ.
وفى الظَّلامْ
فى فجوةِ الصَّمت التى تغور فى
مركز فجوةِ الكلامْ ،
كانت مصابيح القرى
على التِّلال السودِ والأشجارْ
تطفو وتدنو مرَّةَّ
ومرَّةَّ تنأى تغوصُ
فى الضَّباب والبُخَارْ
تسقطُ مثل الثّمر النّاضجِ
فى الصَّمتِ الكثيفِ
بين حدِّ الحلم الموحشِ
وابتداء الانتظارْ.
وارتفعتْ من عتمةِ الأرضِ
مرايا النّارْ
وهاهىَ الآن جذوع الشّجر الحىِّ
ولحمُ الأرضِ
والأزهارْ.
الليلة يستقبلنى أهلى :
خيل’’ تحجل فى دائرة النّارِ ،
وترقص فى الأجراس وفى الدِّيباجْ
امرأة تفتح باب النَّهر وتدعو
من عتمات الجبل الصامت والأحراجْ
حرّاس اللغة – المملكة الزرقاءْ
ذلك يخطر فى جلد الفهدِ ،
وهذا يسطع فى قمصان الماءْ.
الليلة يستقبلنى أهلى :
أرواح جدودى تخرج من
فضَّة أحلام النّهر ، ومن
ليل الأسماءْ
تتقمص أجساد الأطفالْ.
تنفخ فى رئةِ المدّاحِ
وتضرب بالساعد
عبر ذراع الطبّالْ.
الليلة يستقبلنى أهلى :
أهدونى مسبحةَّ من أسنان الموتي
إبريقاً جمجمةً ،
مُصلاَّة من جلد الجاموسْ
رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوسْ
لغةً تطلعُ مثلَ الرّمحْ
من جسد الأرضِ
وعبَر سماء الجُرحْ.
الليلة يستقبلنى أهلى.
وكانت الغابة والصحراءْ
امرأةً عاريةً تنامْ
على سرير البرقِ فى انتظارِ
ثورها الإلهى الذى يزرو فى الظلامْ.
وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً.
يزهر فى سلطنة البراءه
وحمأ البداءهْ.
على حدودِ النورِ والظلمةِ بين الصحوِ والمنامْ.
النشيد الثانى
المدينة
سأعود اليوم يا سنَّار ، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً
تعرّى فى خريفى وشتائي
ثم تهتزّ بنار الأرض، ترفَضُّ لهيباً أخضر الرّيش لكى
تنضج فى ليل دمائي
ثمراً أحمر فى صيفى ، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد فى
الصّمتِ نجوماً فى سمائى
سأعودُ اليوم ، ياسنّارُ ، حيث الرمزُ خيط’’،
من بريقٍ أسودٍ ، بين الذرى والسّفح ،
والغابةِ والصحراء ، والثمر النّاضج والجذر القديمْ.
لغتى أنتِ. وينبوعى الذى يأوى نجومى ،
وعرق الذَّهب المبرق فى صخرتىَ الزرقاءِ ،
والنّار التى فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا ، حرَّاسَ سنّارَ ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا للعائد الليلة أبوابَ المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة.
- "بدوىُّ أنتَ ؟"
"لا –"
- " من بلاد الزَّنج ؟"
" لا –"
أنا منكم. تائه’’ عاد يغنِّى بلسانٍ
ويصلَّى بلسانٍ
من بحارٍ نائياتٍ
لم تنرْ فى صمتها الأخضرِ أحلامُ المواني.
كافراً تهتُ سنيناً وسنينا
مستعيراً لى لساناً وعيونا
باحثاً بين قصور الماء عن ساحرةِ الماء الغريبه
مذعناً للرِّيح فى تجويف جمجمة البحر الرهيبه
حالماً فيها بأرض جعلت للغرباء
-تتلاشى تحت ضوء الشمس كى تولد من نار المساءْ _
ببناتِ البحر ضاجعنَ إله البحر فى الرغو...
(إلى آخِرِهِ ممّا يغنِّى الشعراءْ!)
ثمَّ لّما كوكب الرعب أضاءْ
إرتميت.
ورأيتُ ما رأيتُ :
مطراً أسود ينثوه سماء’’ من نحاسٍ وغمام’’ أحمر’. شجراً أبيض – تفاحاً وتوتاً – يثمرُ
حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
وسمعتُ ما سمعتُ :
ضحكات الهيكل العظمىِّ ، واللحم المذابْ
فوق فُسفورِ العبابْ
يتلوى وهو يهتزّ بغصّات الكلامْ.
وشهدتُ ما شهدتُ :
كيف تنقضّ الأفاعى المرعده
حينما تقذف أمواج الدخان المزبده
جثةً خضراء فى رملٍ تلظىَّ فى الظلامْ.
صاحبى قلْ ! ما ترى بين شعاب الأرخبيلْ
أرض "ديك الجن" أم "قيس" القتيل ؟
أرض "أوديب" و"ليرٍ" أم متاهات " عطيل" ؟
أرض "سنغور" عليها من نحاس البحر صهدُُ لا يسيلْ؟
أم بخار البحر قد هيّأ فى البحر لنا
مدناً طيفيّةً ؟ رؤيا جمالٍ مستحيل؟
حينما حرّك وحش البحر فخذيه : أيصحو
من نعاسٍ صدفى ؟ أم يمجُّ النار والماء الحميما؟
وبكيتُ ما بكيت :
من ترى يمنحنى
طائراً يحملنى
لمغاني وطنى
عبر شمس الملح والريح العقيمْ
لغة تسطعُ بالحبِّ القديمْ.
ثم لّما امتلأ البحرُ بأسماكِ السماءِ
واستفاقَ الجرسُ النائم فى إشراقةِ الماء
سألتُ ما سألت’ :
هل ترى أرجع يوما
لا بساً صحوىِ حلما
حاملاً حلمىَ همّا
فى دجى الذاكرة الأولى وأحلام القبيلة
بين موتاى وأشكال أساطير الطفوله.
أنا منكم .جرحكم جرحى
وقوسى قوسكم.
وثنى مجَّد الأرضَ وصوفىِّ ضريرُُ
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ.
فافتحوا
حرَّاس سنّارّ ،
افتحوا بابَ الدَّم الأوّلِ
كى تستقبل اللغةَ الأولى دماهْ
حيث بَلُّور الحضورْ
لهبُُ أزرقُ
فى عينِ
المياهْ
حيثُ آلافُ الطيورْ
نبعتْ من جسدِ النّارِ.
وغنّتْ
فى سماوات الجباهْ.
فافتحوا ، حرّاسَ سنّار ،
افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة
افتحوا.....
" إنّنا نفتح يا طارقُ أبواب المدينة
"إن تكن منّا عرفناك ، عرفنا
" وجهنا فيك : فأهلاً بالرجوعْ
" للربوعْ.
" وإذا كنتَ غريباً بيننا
" إنّنا نسعد بالضِّيف ، نفدِّيهِ
" بأرواحٍ ، وأبناءٍ ، مالْ
" فتعالْ.
" قد فتحنا لك يا طارقُ أبواب المدينة
" قد فتحنا لك يا طارقُ...
" قد فتحنا...."
ودخـــلتُ
حافيا منكفئا
عارياً ، مستخفياً فى جبة مهترئة
وعبرتُ
فى الظلامْ
وانزويت
فى دياجير الكلام
ونمــــتُ
مثلما ينامُ فى الحصى المبلول طفل الماءْ
والطّير فى أعشاشهِ
والسمك الصغير فى أَنهارِهِ
وفى غصونها الثِّمارُ
والنجوم فى مشيمةِ
السماءْ.
النشيد الثالث
الليـــــــل
وفتحت ذراعها
مدينتى
وحضنها الرغيدْ
- أيّة أنهارٍ عظيماتٍ
وغاباتٍ
من البروق والروعودْ –
تنحلّ أعضائى
بخاراً أحمراً
يذوب فى دمائها
تعوم روحى
طائراً أبيض
فوق مائها
ويطبق الليل الذى
يفتحُ
فى الجمجمة البيضاءْ
خرافةً تعودُ ،
وهلةً ووهلــةً ،
إلى نطفتها الأشِياءْ
فيها ، وينضج اللهيبُ
فى عظام شمسها
الفائرة الزرقاءْ
ويعبر السمندلُ الأحلامَ
فى قميصه
المصنوع من شرارْ.
فى الليل حيث تنضج الخمرةُ
قبل أن تموج فى الكرومِ
قبل أن تختم فى آنية الفخّارْ
فى الليل حيث الثمر الأحمرُ
والبرعمُ والزهرةُ فى وحدتها الأولى
من قبل أن تعرف ما الأشجارْ
فى الليل تطفو الصور الأولى
وتنمو فى مياه الصَّمتِ
حيث يرجع النشيدْ
لشكلِهِ القديمِ
قبلَ أن يسمِّى أو يسمَّى ،
فى تجلّى الذات ، قبل أن يكون غيرَ ما يكونُ
قبل أن تجوِّفَ الحروفُ
شكلَهُ الجديدْ.
النشيد الرابع
الحـــــــلم
رائحة البحر التى تحملها الرياحْ
فى آخر الليل ، طيور’’ أفرختْ
فى الشفق البنفسجىِّ بين آخر النجوم والصباحْ
أنصتْ هنيهةً !
تسمع فى الحلم حفيف الرِّيش حين يضرب الجناحْ
عبر سماوات الغيابْ
هل دعوة إلى السفر؟
أم عودة إلى الشجر ؟
أم صوت بشرى غامضُُ يزحف مثل العنكب الصغير فوق خشبات البابْ
يبعثه من آخر الضمير مرَّةَّ عواء آخر الذئابْ
فى طرف الصحراءِ ، مرَّةً رنين معدنٍ فى الصمَّتِ ،
أو خشخشة الشوكَ الذى يلتفّ حول جسد القمرْ
ومرَّةَّ تبعثه صلصة الأجراس
حين ترقص الأسماك فى دوائر النجوم فى النَّهَرْ.
أم صوت باب حلمٍ يفتحه
فى آخر الليل وقبل الصبحْ
المَلَك الساهر فى مملكة البراءة
وحمأ البداءه
تحت سماء الجرحْ
يَمُدُّ لى يديه
يقودنى عبر رؤى عينيه
عبر مرايا ليلك الحميمة
للذهب الكامن فى صخورك القديمة
فأحتمى – كالنطفة الأولى –
بالصور الأولى التى تضىءُ
فى الذّاكرة الأولى
وفى سكون ذهنك النقىِّ
تمثالاً من العاجِ،
وزهرة
وثعباثاً مقدساً وأبراجاً
وأشكالاً من الرخامِ والبلُّور والفَخّارْ.
حلمُُ ما أبصرُ أم وهمُُ؟
أم حق يتجلّى فى الرؤيا ؟
فى هاجرةِ الصَّحْراء أزيح قباب الرملَ
عن نقشٍ أسودَ ، عن مَلِكٍ
يلتفًّ بأسماء الشفرةِ والشمسِ
والرمز الطّافر مثل الوعلِ
فوق نحاسِ الصَّحراءْ.
أسمع صوت امرأةٍ
تفتحُ باب الجبل الصَّامت ، تأتي
بقناديل العاج إلى درجات الهيكل والمذبحْ
ثم تنامُ – ينامُ الحرَّاسْ –
لتوليد بين الحرحر والأجراسْ
شفةً خمراً ، قيثاراً ،
جسداً ينضج بين ذراعىْ شيخٍ
يعرف خمرَ اللهِ وخمر النّاسْ.
لغة’’ فوق شفاهٍ من ذهبٍ
أم نورُُ فى شجر الحُلمِ المزهرْ
عند حدود الذَاكرةِ الكبرى
الذّاكرة الأولى؟
أم صوتي
يتكوَّر طفلاً كى يولدَ
فى عتباتِ اللغةِ الزرقاءْ ؟
وتجىءُ أشباح مقنّعة’’ لترقص حرَّةً ، زمناً،
على جسدى الذى يمتد أحراشاً ، سهوباً : تمرح الأفيالُ،
تسترخى التماسيح ، الطيور تهبُّ مثل غمامةٍ ، والنحل مروحة’’
ويغنِّى وهو يعسل فى تجاويف الجبالِ ، وتسدير مدينة’’ زرقاءُ
فى جسدى، ويبدأ صوتُها ، صوتْى ، يجسِّد صوت موتاىَ الطليقْ
حلم’’ ؟ رؤىِّ وهميّة’’ ؟ حقُّ؟
أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت ، هذا الرمز ،
يخلقنى وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل والحبِّ العميقْ
وحينما يجنح آخر النجوم للأفولْ
ويرجع الموتي إلى المخابىء القديمة
كيما ينامون وراء حائط النّهارْ
أنام فى انتظارْ
آلهة الشمس وقد أترع قلبى الحبُّ والقبولْ.
النشيد الخامس
الصــــــبح
مرحى! تطلُّ الشمسُ هذا الصبحَ من أفق القبولْ
لغةً على جسد المياهِ ،
ووهجَ مصباحٍ من البلُّورِ فى ليل الجذورِ ،
وبعضَ إيماءٍ ورمزٍ مستحيلْ.
اليومَ يا سنّار أقْبَلُ فيكِ أيّامى بما فيها من العشب الطفيلىِّ
الذى يهتزُّ تحتَ غصونِ أشجارِ البريقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ أيّامى بما فيها من الرّعب المخمَّر فى شرايينى.
ومافيها من الفرح العميقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ كلَّ الوحلِ واللّهب المقدَّس فى دمائكِ ، فى دمائي.
أحنو على الرَّملَ اليبيسِ كما حنوتُ على مواسمكِ الغنيّة بالتدفق والنماء.
وأقولُ: يا شمسَ القبولِ توهّجى فى القلبِ
صفيِّنى ، وصفِّى من غبارٍ داكنٍ
لغتى ، غنائى.
سنَّارُ
تسفَر فى
نقاءِ الصحو ، جرحاً
أزرقا، جبلاً ، إلهاً ، طائراً
فهــداً ، حصاناِ ، أبيضاً ، رمحاً
كتـــابْ
رجعت طيور البحر فَجْرَاً من مسافات الغيابْ.
البحر يحلم وحده أحلامه الخضراء فى فوضى العبابْ.
البحرُ؟ إنّ البحر فينا خضرة’’ ،
حلم’’ ، هيولى ،
شجراً ارى ، وأرى القوارب فوق ماء النّهرِ
والزرّاع فى الوادى ، وأعراساً تقامُ ، ومأتماً فى الحىِّ ،
والأطفال فى الساحات ، والارواح فى ظلَّ الشجيرةِ
فى الظهيرةِ حين يبتدىُْ الحديث برنّه اللغة القديمةْ.
الشمس تسبح فى نقاء حضورها ، وعلى غصونِ القلب عائلةُ الطيّورِ،
ولمعةُُ سحرية’’ فى الريحِ ، والأشياء تبحر فى قداستها الحميمةْ.
وتموج فى دعةٍ ، فلا شىءُُ نشازُُ كلُّ شىءٍ مقطعُ ، وإشارةُُ
تمتد من وترٍ إلى وترٍ ، على قيثارة الأرض العظيمةْ.