ملاحظة: منقول عن سودانيز أونلاين
والمقال للشاعر الكبير سيد أحمد الحاردلو
الذي يصر على أن يعيش شامخاً ويموت شامخاً شخموخ "دومة ود حامد".
.. إنه... جدير بالاحترام...!!
.. (نعم.. السودان.. هبة الله..!)
سيد أحمد الحردلو
1
* تاريخ السودان - (حسب إفادات آثاره ـ)
ما ظهر منها.. وما بطن.. ( يتوغل إلى مائتي ألف سنة...)
وليس (لسبعة آلاف).. كما يزعم الزاعمون..!!
* ماعرف عنه شحيح وبخيل وهزيل.. ولا يملأ الكف..!
لأنّه ضارب في تيه ممدود بلا حدود...!!
... ومخبوء عنا.. في بيداء.. دونها بيد...
من الأقربين والأبعدين..!
وتلك قصة كتاريخ الأفاعي طويلة.. وتطول...!
فنحن (السودانيين)... مسؤولون أمام الله ( والتاريخ والجغرافيا والمجتمع والحلم) عن كل ذلك!
* لكنني استثني حفنة من المؤرخين والعلماء السودانيين الذين حاولوا
ويحاولون ـ قدر المتاح أمامهم من إمكانات ـ نبش ذلك المطمور من
تاريخنا.. وأتوقف بالإجلال أمام الأستاذ جعفر ميرغني الذي مافتئ يسعى ويكد.. ومازلت أتمنى عليه نشر ذلك المخزون المسجون الذي
جمعه ويجمعه في مجلدات مرقمة.. بدعم مالي مستحق من جهات
الاختصاص!!
فالسودان جدير بذلك.. وتاريخه جدير بالاحترام!
2
* واستأذن لأضرب بعض الأمثلة.. فهناك من يقولون ـ وأنا الفقير
الضعيف منهم ـ أن سيدنا موسى (الكليم) عليه السلام ـ مثلاً ـ ولد في
(ناوى) على ضفاف (مجمع البحرين) (حيث كان يلتقي فيها بحران
قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة!)
* وأنّ النبي (الخضر) (أعلم علماء زمانه) ولد في (ناوى). وكذلك
سيدنا لقمان الحكيم (أحكم حكماء زمانه)، وأن عدداً من السحرة الذين استعان بهم الفرعون، (رمسيس الثاني) أمام سيدنا (الكليم) هم أيضاً من (ناوى) التي اشتهرت بالسحرة، وليس (السحاحير!!) كما يقول العامة!
* بل إن مستر قريفس (مؤسس معهد بخت الرضا الشهير) قال في
كتابه (نقوش مروية) أن (معبد وتمثال الملك ترهاقا) وجــدا
مطمورين تحت رمال (ناوى) ونقلا إلى مركــز مروي (وقــد شاهدتهما في طفولتي أمام مركز مروي!) وتلك جميعها شواهد على أن (ناوى) أو (ناوا) التي (جنيت) على اسمهــا التاريخي
لدواعي الشعر!! كانت بلدة تاريخية مهمة لأنها أنجبت رجالاً عظماء منذ آلاف السنين. وأكرمها الله بموقع فريد على ضفاف مجمع البحرين!
* وكنت ومازلت أقول إنّ (مرج البحرين) هو مقرن النيلين، وقد أيّد
قولي هذا السفير اليمني الشاعر والمؤرخ د. صلاح علي أحمــد
العنسي، في قصيدة له نشرتها صحيفة (آخر لحظة)، فهـو إلى
جانب تخصصه في الاقتصاد والعلوم السياسية، دارس تاريخ
خاصة التاريخ اليمني ـ السوداني. وكتب قصيدة عن السودان
أسماها (السودان.. هبة الله!) و(أعجب كيف غابت عني هــذه
الصفة الصادقة والصدوقة) و(أنا الزاعم ألا أحد يماثلني أو حتى يجاريني في عشق هذا السودان!!!) وقد يكون زعمي مردوداً!!!
* فالسودان ـ إذن ـ جدير.. وتاريخه جدير بالاحترام!!
3
* أمّا النوبيون (أو النوبة) فقد شيّدوا الحضارة الأولى في الدنيا على
ضفاف (نيل السودان).. وملوكهم كثر.. وأستاذن لأضرب مثلاً
ببعضهم:- فمنهم (كاتشا) و (بعانخي الفاتح) و(الكنداكة) و(ترهاقا).
* امتدت امبراطوريتهم من تخوم الشام وحفافي البحر الأبيض.. إلى
الصومال و(بحر القلزم) شرقاً.. وإلى غانا وغينيا.. والسنغال على (بحر الظلمات) غرباً!
* وهو جدير.. وهم جديرون بالاحترام!!
4
* شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ما كان يسمى بـ (الاشتراكية الإفريقية) التي كان يتزعمها الشاعر والرئيس السنغالي ليوبولد سنغور، وكانت تلتئم منتدياتها كل عام في عاصمة إفريقية، وكنت حينها منقطعاً في السفارة بتونس، وكان الدور عليها.. بينما الصديق (الراحل المقيم) أبو القاسم هاشم ذلك الإنسان النبيل (عليه رضوان الله) كــان يمثل السودان في تلك اللقاءات لكنه ـ ربما بسبب مشاغله ـ أرسل برقية لاسلكية يكلفني فيها بأن أنوب عنه في ذلك اللقاء..
* كان ذلك في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي.
* اقترحت تونس أن يكون المنتدى في مدينة (سوسة) الساحلية السياحية الجميلة، وهي على مرمى ساعة بالسيارة من العاصمة.
* كانت الاجتماعات صباحية ونهارية، وكانت المساءات حرة. كنا نلتقي كل مساء (سنغور وشخصي الضعيف ونسهر في حــوارات
تطول عن الاشتراكية الإفريقية والشعر حتى بعد منتصف الليل).
(لم يكن ـ يومها ـ رئيساً للسنغال. كان قد استقال كأول رئيس إفريقي، وسار مساره ـ بعد حين ـ المعلم نيريري!).
* استنشدته شعراً ذات مساء. كان يجيد الفرنسية التي يكتب بها شعره، ويحسن الانجليزية. وكنت (ركيك) الفرنسية، وأحسن الإنجليزية. كنت أسأله عن بعض التعابير الفرنسية، التي كانت تغيب عنّي
فيشرحها لي بالإنجليزية، ثم استنشدني شعراً، فأنشدته بعضاً من
قصيدتي المطولة (نحن) وكنت قد كتبتها بالعامية في كنشاسا بزائير عام 1975م ولاحظت أنّه طرب حين ترجمت له:
(نحن الساس
ونحن الرأس
ونحن الدنيا جبناها
وبنيناها
بويت في بويت
وأسال جدي ترهاقا
وخلي الفاقة والقاقا).. الخ
وحين قلت له (إن هنالك من اتهمني بالنرجسية) وكنت أعني ابن أختي
مولانا أبو الحسن مالك ـ احتد صوته وهو يقول (إنك قلت الحقيقة.
إنّ الحضارة الأولى في الدنيا أقامها جدودكم النوبة وهم سادة الصناعة الأولى، والزراعة الأولى والمعرفة والشعر والفنون.. والفخاريات
والأهرامات.. الخ.. بل إنّ هذه الحضارة انتقلت إلى السنغال.. وأن هنالك أعداداً كبيرة من النوبة والدينكا والشلك والنوير يعيشون في
السنغال ويتحدثون بلغاتهم الأصلية.. الخ)
* سألته.. إن كان مستعداً أن يقول كل هذا في محاضرة في الخرطوم..
فعبّر عن سعادته بذلك. فأرسلت تقريراً بذلك لرئاسة الخارجية، وجاءني رد إيجابي ومعه رسالة من الرئيس نميري (عليه رضوان الله) موجهة
للرئيس سنغور، قمت بتسليمها لسفير السنغال بتونس ليرسلها عبر
خارجيتهم لسنغور.. وعلمت.. فيما بعد أن الرئيس سنغور قد جــاء
للخرطوم وقدم محاضرة بذات المعنى في قاعة الامتحانات بجامعــة
الخرطوم!
5
* قضيت الفترة من أغسطس 1968 إلى أغسطس 1971م في سفارتنا بلندن، وكنت أداوم على زيارة (ركن المتحدثين بحديقة هايد بارك) كل
نهار أحد، وكنت أحرص على الاستماع لاثنين من المتحدثين.. أحدهما (روي صو) وهو من جامايكا وكان مديراً لجامعة الدراسات السوداء
بلندن وأصبحنا أصدقاء والتقاه في شقتي الأصدقاء مأمون عوض أبوزيد والمرحوم عوض مالك ومحمد أحمد ميرغني (السوس).. عدة مرات.
وكنت أمده بمؤلفات ودراسات عن قضية جنوب السودان،
والآخر أستاذ إفريقي (غاب عني أسمه) كان يحاضر في تلك الجامعة
عن تاريخ إفريقيا، وكان يركز في محاضراته في الجامعة وهايدبارك،
على أنّ الحضارة الأولى نشأت في إفريقيا (السودان) وأن هؤلاء الأفارقة.
(هم الذين علموا قدماء المصريين والذين بدورهم علموا الإغريق الذين
علموا الرومان، وهؤلاء بدورهم علموا الانقلوساكسونيين).
* ولابد أن كثيرين يذكرون عالم الآثار (بروفيسور هيكوك) الإنجليزي والذي كان يقيم في (البِنك بلاس) (القصر البمبي) على النيل الأزرق والذي توصل ـ بعد جهود مضنية ـ إلى أن الحضارة الأولى (انتقلت من الجنوب للشمال) ولقى حتفه وهو يقود (بسكليته) في حادث مرور قرب مقر سكناه!!!؟؟
6
* دعاني الصديق الحبيب الروائي العالمي الطيب صالح (عليه رضوان الله) شتاء 2002م لزيارته في القاهرة في رسالة بعث بها مع صديق الطرفين الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، فاختار الأستاذ محمود عشية عيد الأضحى لأسافر في صحبته الكريمة للقاهرة. كنت أحرص إبان أقامتي مع (الطيب الصالح) أن أهبط باكراً من شقته في شارع الجامعة العربية.. لأشتري (صحيفتي الشرق الأوسط والحياة) إلى جانب الصحف المصرية، وفوجئت بخبر مثير في الشرق الأوسط وفي صفحتها الأولى يقول: إن عالم الاثار "بروفيسور هيرمان بيل" عقــد مؤتمراً صحفياً في الخرطوم قال فيه إنّ أساس حضارة وادي النيل هو السودان!)
وهذا العالم ـ الأمريكي الأصل والبريطاني الجنسية كانت قد استجلبته
(اليونسكو) قبيل اكتمال السد العالي ليسجل أسماء القرى التي ستغمرها مياه السد والآثار التي يمكن انقاذها في شمالي السودان. فعشق هذا العالم وزوجته السودان وأقاما فيه لفترات طويلة (تعلم إبّانها
العربية والنوبية) تعرّفت عليهما (في دارة) الصديق (الراحل المقيم) البروفيسور محمد عمر بشير (عليه رضوان الله) في مايو 1975م.
* قرأ الطيب صالح الخبر وهو يكرر عبارته الشهيرة (حكاية عجيبة الشأن)، فقلت له مازحاً (لماذا لا تطلب من بعض أصدقائنا
المصريين أن يطالعوا (الشرق الأوسط) (فقط وبدون إيضاح!) فضحك وفعل. (و.. تعال.. وشوف..!) توالت بعد حــوالي الساعة اتصالاتهم
الهاتفية.. وهم يستنكرون وينفون تلك الفرية!! ومن عجب.. كــان
جميعهم من كبار الأدباء والمفكرين!!
7
* كان النوبيون القدماء هم أول من بنى السفن الكبيرة العابرة للبحار
والمحيطات ( سفينة سيدنا نوح "عليه السلام" استثناء). وكــان النوبيون مغرمين بالاستكشافات والتوسع في مد إمبراطوريتهم، ليس لأسباب استعمارية.. ولكن لطموح حضاري هدفه نشر حضارتهم.
* وهكذا عبر روادهم المحيط الأطلسي فوجدوا أنفسهم في المكسيك.. فتركوا فيها بصماتهم الحضارية.. ثم دلفوا شمالاً ليكتشفوا أمريكا قبل
آلاف مؤلفة من السنين قبل ذائع الصيت كرستوفر كلمبس.. وأقاموا
فيها حضارة ماتزال (آثارها) باقية.. لمن يريد أن ينقب ويستوثق
(إن سمح له بذلك!!)
8
* و.. كان الأشوريون يغزون بلاد الآخرين ليس لاستعمارها ولكن لنهب ثرواتها وتدميرها وتركها (قاعاً صفصفاً) لحكمة يعرفها الأشوريون!!
وهكذا ذهبت جيوشهم إلى (القدس) وحاصرتها، فاستنجد ملك القدس (اليهودي) بالملك بعانخي الذي كانت تمتد حدود إمبراطوريته حتى تخوم الشام، فأرسل بعانخي (ابنه ترهاقا) قائد جيشه والذي هــزم الأشوريين وفك الحصار عن القدس!
9
* ذلك غيض من فيض.. فيوض تاريخنا الذي حبانا به الله ـ جلّت قدرته.
أمّا الجغرافيا.. فشواهدها ماتزال ماثلة أمامنا.. كأكبر قطر عربي _ أفريقي مساحة.. وكجسر واصل وليس فاصلاً بين (اليعربية
والأفريكانية) راكز ـ رغم كل شيء ـ (كالهمبول) من خط عرض
22 شمالاً حتى الاستواء جنوباً، يجري فيه عشرون نهـراً،
ومياه جوفية بينها وبين سطح الأرض شبر واحد في كثير من
أصقاعه.. مسكون بكل الثروات على الظاهر والباطن.. وباختصار.. هو أغنى بلاد الدنيا.. وأفقرها في ذات الوقت!!
* عاش فيه شعب طيب.. كريم الخصال والسجايا.. مستور الحال.. وكان متكافلاً ومتكاملاً وأرباباً..!
11
* (السودان.. هبة الله)
* صدقت يا صديقي السفير الشاعر..
* نعم.. (السودان هبة الله) أكرمنا الله كثيراً بتاريخ وجغرافية.. ومجتمع وحلم..) وهي هبات.. (قلّ أن يجود بها الزمان في وطن واحد!) فأين
نحن الآن من كل ذلك!!!
* ها نحن نعيش الآن في عالم يحاصرنا.. محلياً وإقليمياً ودولياً! يسعى جاهداً (لتقسيم المقسم.. وتجزئة المجزأ..!!) وها نحن بدلاً عن أن نتوافق
ونتصالح ونتحد حول برنامج أو ميثاق أو عهد.. قومي ملزم للجميع لإنقاذ السودان (أولاً.. وثانياً وعاشراً) ها نحن نتفرق أيدي سبأ!!
* السودان الآن.. (في مأزق أن يكون أو لا يكون!!)
(وتلك هي القضية!!) كل ذلك التاريخ الذي أسلفت.. وكل تلك الجغرافيا
التي أسهبت.. وكل ذلك المجتمع النادر المثال.. وكل ذلك الحلم العظيم
الذي يتمدد من البحر.. عبر النهر.. حتى الجبل.. ومن الصحراء... إلى السافنا والغابة... حتى الاستواء..!
* كل ذلك الميراث والتراث والحاضر.. والآتي مهدد بالانقراض كالغول
والعنقاء والخل الوفي!! (إني أكاد أرى الأشجار تمشي نحوكم!!!)
* يقول القائلون.. إن الجنوب سيتوغل جنوباً.. وأن المغرب سيتوغل غرباً.. وأن المشرق سيتوغل بحراً.. وأنّ الشمال سيتوغل شمالاً..
أي أننا موعودون بدويلات أو كانتونات!! (والله يكضب الشينة!!!)
11
* علمت من فضائية (الجزيرة) أنّ الإمام السيد الصادق المهدي. ومعه نفر كريم من مفكري مصر يعملون لقيام هيئة أهلية تسعى للحفاظ على حقوق السودان ومصر من مياه النيل.. ذلك أمر مهم وحسن.
* لكن الأهم والأحسن والأبقى.. هو العمل على بقاء السودان متحداً وسالماً وقويـاً!
* من هنا (ومن منطلق قومي نشأت عليه، وظللت مستمسكاً به، وسأظل عليه) أنادي وبالصوت الجــارح والعالي كل السودانيين ـ يا كل السودانيين إنني لا أجد ما أختم به قولي هذا سوى) (المقطع الثالث) من قصيدتي (فكذبوا نبوءتي.. يا أهل بيزنطه) وكنت كتبتها في الخرطوم في عام 1987، حيث قلت وأقول:
(يا كل أبناء الوطن
يأيّها الجميع..
في جميع أصقاع وأوجاع الوطن
إني أصيح
أن شيئاً ما.. يمد ظله على الوطن
وأن شيئاً ما.. يعد في مطابخ
الكبار والصغار.. للوطن
وأنني أرى فيما أرى
وحشا من النار..
وفي كفيه.. سيف وكفن
فكذبوا نبوءتي
يأيها الرجال والأطفال والنساء
فإنني أرى الأشجار تمشي نحوكم
وأنكم محاصرون في ذواتكم
وأنّ شيئاً مثل ظل الموت
مد ظله من حولكم
فكذبوا نبوءتي
يا أهل بيزنطه.. لأنكم
تجادلون بعضكم
ويستبيح الطامعون داركم..!!)
12
* يا جميع السودانيين!
و... تلك شهادتي الأخيرة.. أبذلها أمام الله والوطن والناس!!! واستغفر الله لي ولكم، و.. خلاس!!!
الخرطوم ـ في العاشر ـ من يونيو ـ 2010م